فصل الغنى
عافية للعلماء حضرنا بعض أغذية أرباب الأموال فرأيت العلماء
أذل الناس عندهم.
فالعلماء يتواضعون لهم ويذلون لموضع طمعهم فيهم وهم لا
يحفلون بهم لما يعلمونه من احتياجهم إليهم.
فرأيت هذا عيباً في الفريقين.
أما في أهل الدنيا فوجه العتب أنهم كانوا ينبغي لهم تعظيم
العلم ولكن لجهلهم بقدره فاتهم وآثروا عليه كسب الأموال.
وإنما أعود باللوم على العلماء وأقول: ينبغي لكم أن تصونوا
أنفسكم التي شرفت بالعلم عن الذل للأنذال.
وإن كنتم في غنى عنهم كان الذل لهم والطلب منهم حراماً
عليكم.
وإن كنتم في كفاف فلم لم تؤثروا التنزه عن الذل بالعفة عن
الحطام الفاني الحاصل بالذلة.
إلا أنه يتخيل لي من هذا الأمر أني علمت قلة صبر النفس على
الكفاف والعزوف عن الفضول فإن وجد ذلك منها في وقت لم يوجد على الدوام.
فالأولى للعالم أن يجتهد في طلب الغنى ويبالغ في الكسب وإن
ضاع بذلك عليه كثير من زمان طلب العلم فإنه يصون بعرضه عرضه.
وقد كان سعيد بن المسيب يتجر في الزيت وخلف مالاً.
وخلف سفيان الثوري مالاً وقال لولاك لتمندلوا بي.
وقد سبق في كتابي هذا في بعض الفصول شرف المال ومن كان من
الصحابة والعلماء يقتنيه والسر في فعلهم ذلك وحتى طالبي العلم على ذلك ما بينته من
أن النفس لا تثبت على التعفف ولا تصبر على دوام التزهد.
وكم قد رأينا من شخص قويت عزيمته على طلب الآخرة فأخرج ما في
يده ثم ضعفت فعاد فالأولى ادخار المال والاستغناء عن الناس.
ليخرج الطمع من القلب ويصفو نشر العلم من شآئبة ميل.
ومن تأمل أخبار الأخيار من الأحبار وجدهم على هذه الطريقة.
وإنما سلك طريق الترفه عن الكسب من لمي يؤثر عنده بذل الدين
والوجه.
فطلب الراحة ونسي أنها في المعنى عناء.
كما فعل جماعة من جهال المتصوفة في إخراج ما في أيديهم
وادعاء التوكل.
وما علموا أن الكسب لا ينافي التوكل.
وإنما طلبوا طريق الراحة وجعلوا التعرض للناس كسباً.
وهذه طريقة مركبة من شيئين: أحدهما: قلة الأنفة على
العرض.
الثاني: قلة العلم.