الخميس، 15 ديسمبر 2011

«كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ



بسم الله الرحمن الرحيم (21)

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ..

المستمعون الأكارم .. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسعدَ الله أوقاتكم بكل خير .

هذا هو اللقاء السادس والعشرون ، قصةٌ رواها من الصحابة جُنْدَبُ بنُ عبد الله t ، قال : قال رسول الله e :«كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ بِهِ جُرْحٌ ، فَجَزِعَ ، فَأَخَذَ سِكِّينًا ، فَحَزَّ بِهَا يَدَهُ ، فَمَا رَقَأَ الدَّمُ حَتَّى مَاتَ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : بَادَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ ، حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» .

هذه القصة أخرجها الشيخان في الصحيحين .

وما مضى لفظ الإمام البخاري . لفظ مسلم :« إِنَّ رَجُلًا مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ خَرَجَتْ بِهِ قَرْحَةٌ ، فَلَمَّا آذَتْهُ انْتَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ فَنَكَأَهَا ، فَلَمْ يَرْقَأْ الدَّمُ حَتَّى مَاتَ ، قَالَ رَبُّكُمْ : قَدْ حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ » .

وأقف معها ستَّ وقفات :

الوقفة الأولى في شرح الغريب .

الْقَرْحَة بِفَتْحِ الْقَاف وَإِسْكَان الرَّاء وَهِيَ وَاحِدَة الْقُرُوح ، وَهِيَ حَبَّاتٌ تَخْرُجُ فِي بَدَنِ الْإِنْسَانِ . أو هي الجرح إذا دبَّ إليه الفساد . وبهذا يُجمع بين الروايتين ، فكان به جرح ثم آل إلى قَرحة .

وَالْكِنَانَةُ بِكَسْرِ الْكَاف هِيَ : جَعْبَة النُّشَّاب –هكذا بفتح الجيم- ، سُمِّيَتْ كِنَانَة ؛ لِأَنَّهَا تَكِنُّ السِّهَام ، أَيْ : تَسْتُرهَا .

ونكأها : فتحها وخرقها .

«حزّ بها يده» : قطعها . جزع : لم يصبر . «فما رقأ الدم» : لم يتوقف تدفقه .

الوقفة الثانية :

من أهم الفوائد التي أرشدت إليها هذه القصة : أنّ الانتحار من كبائر الذنوب . نهى الله عنه بقوله :} ولا تقتلوا أنفسكم{ . وتوعد رسول الله e من قتل نفسه في أحاديثَ كثيرةٍ .. ففي مسلم قال النبي e :«مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عُذِّبَ بِهِ فِي النَّارِ» ، وفي رواية :« َمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ، وفي أخرى :« مَنْ ذَبَحَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ ذُبِحَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وفي صحيح البخاري :« الَّذِي يَخْنُقُ نَفْسَهُ يَخْنُقُهَا فِي النَّارِ ، وَالَّذِي يَطْعُنُهَا يَطْعُنُهَا فِي النَّارِ».

وثبت في الصحيحين قولُ نبيِّنا e :« مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ يَتَرَدَّى فِيهِ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا ، وَمَنْ تَحَسَّى سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَسُمُّهُ فِي يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَجَأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا» .

واسمع هذه الحادثةَ –أخي الكريم- لتعلم خطورة الإقدام على هذه الحماقة ، حماقةَ الانتحار .

ثبت في الصحيح عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ e الْتَقَى هُوَ وَالْمُشْرِكُونَ فَاقْتَتَلُوا ، فَلَمَّا مَالَ رَسُولُ اللَّهِ e إِلَى عَسْكَرِهِ وَمَالَ الْآخَرُونَ إِلَى عَسْكَرِهِمْ ، وَفِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ e رَجُلٌ لَا يَدَعُ لَهُمْ شَاذَّةً إِلَّا اتَّبَعَهَا يَضْرِبُهَا بِسَيْفِهِ ، فَقَالُوا : مَا أَجْزَأَ مِنَّا الْيَوْمَ أَحَدٌ كَمَا أَجْزَأَ فُلَانٌ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : «أَمَا إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ» . فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ : أَنَا صَاحِبُهُ أَبَدًا . قَالَ : فَخَرَجَ مَعَهُ ، كُلَّمَا وَقَفَ وَقَفَ مَعَهُ ، وَإِذَا أَسْرَعَ أَسْرَعَ مَعَهُ ، قَالَ : فَجُرِحَ الرَّجُلُ جُرْحًا شَدِيدًا ، فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ ، فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ بِالْأَرْضِ وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ ، ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَى سَيْفِهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ . فَخَرَجَ الرَّجُلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ e فَقَالَ : أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ . قَالَ :«وَمَا ذَاكَ» ؟ قَالَ : الرَّجُلُ الَّذِي ذَكَرْتَ آنِفًا أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ، فَأَعْظَمَ النَّاسُ ذَلِكَ ، فَقُلْتُ : أَنَا لَكُمْ بِهِ . فَخَرَجْتُ فِي طَلَبِهِ حَتَّى جُرِحَ جُرْحًا شَدِيدًا فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ ، فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ بِالْأَرْضِ ، وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ ، ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَيْهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ e عِنْدَ ذَلِكَ :«إِنَّ الرَّجُلَ لِيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لِيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ» .

وثبت أنّ رجلاً قتل نفسه فلم يصلِّ عليه النبي e .

الوقفة الثالثة :

الذي حمل هذا الرجل على أن يقدم على هذه الحماقة : الجزع . ولذا فالصَّبر خير عزاء لأهل البلاء ، وأيم الله أيها المستمعون ، لا يبرح الصبر قائمة أخلاقنا إلا ساء عيشنا ، وتغصت حياتنا ، والعكس بالعكس ، ولذا من درر علي t :" وجدنا خير عيشنا بالصبر".

الصبر كاسمه ، مرٌّ مذاقته ، لكن عواقبه ، أحلى من العسل .

ومما يحمل على الصبر : أن يُعلم : أنّ الانتحار لن يزيل البلاء ، وإنما سيزج بأهله في النار ، وهذا بلاء ما بعده بلاء .

الذي تتراكم عليه الهموم فيصبر سيكفرُ الله عنه سيئاته ، ويدخلُه مدخلاً كريماً .

والذي يُصاب بالمصائب فيقتل نفسه انتقل من عذاب الدنيا إلى عذاب جهنم .. ما أجملَ عاقبة الصبر . وما أقبحَ هذه الجريرة التي تجر بأصحابها إلى نار جهنم .

الوقفة الرابعة :

في القصة أنّ هذا الرجل استعجل الراحة فعوقب بأن حرم الله عليه الجنة ، فلم يحظ بمراده . ففيه دليل على القاعدة المعروفة : من استعجل الشيءَ قبل أوانه عوقب بحرمانه .

الوقفة الخامسة :

ليس أحاديث تحريم قتل الإنسان لنفسه دليلاً على مذهب الخوارج الذين يكفرون بارتكاب الكبائر . فعقيدتنا أنّ كل ذنب سوى الشرك بالله لا يُخلد صاحبه في النار . وإنما هو تحت المشيئة ، إن شاء الله عفا عنه وإن شاء عذب أصحابه ، ولكنهم لا يُخلدون في النار ، فلا يخلد في النار إلا الشرك بالله .

فإن قيل : كيف نوفق بين هذا وبين قول الله تعالى : حرمت عليه الجنة .

الجواب بواحد من الوجوه التالية :

1. أنّ هذا الرجل كان مستحلاً ، ومستحل الحرام كافر مخلد في النار .

2. أو يقال : حرمها عليه حين يدخلها الأبرار ، ثم يكون يدخلها بعد ذلك .

3. وَيُحْتَمَل أَنَّ شَرْع أَهْل ذَلِكَ الْعَصْر تَكْفِير أَصْحَاب الْكَبَائِر

4. أو أنّ هذا الرجل كان كافراً في الأصل وعوقب بذلك زيادةً على كفره .

5. أو أنّ المراد جنةٌ معينة ، كالفردوس مثلاً .

وقيل غير ذلك . وعلى أية حال فلا يمكن أن يتمسك التكفيريون بمثل هذه النصوص . وسأورد قصةً هي قاصمة الظهر لهم ..

فأين يفرون من هذه القصة ؟

الوقفة السادسة:

وأختم بها إن شاء الله :

ليس في الحديث دليلٌ للمعتزلة . ماذا يقول المعتزلة ؟ يقولون : المقتول مقطوع عليه أجله . ولولا قتل القاتل لنفسه أو لغيره لعاش المقتول .

وهذا سفه قلّ مثله . ومن عجب أنهم استدلوا بهذا الحديث .«بادرني عبدي بنفسه» . فقالوا : كان أجله إلى أبعد من ذلك فبادر به .

والرد عليهم من وجوه كثرة أجتزئ منها وجهين :

الأول : المراد بالمبادرة مباشرة الأسباب المحرمة . قال ابن حجر رحمه الله :" هي مُبَادَرَة مِنْ حَيْثُ التَّسَبُّب فِي ذَلِكَ وَالْقَصْد لَهُ وَالِاخْتِيَار ، وَأَطْلَقَ عَلَيْهِ الْمُبَادَرَة لِوُجُودِ صُورَتهَا". أي : وليس المراد أنّ له أجلاً غير هذا لم يبلغه . فالقاتل يعاقب لأنه باشر الأسباب المحرمة .

الثاني : كيف يكتب الله أجلاً للإنسان ولا يبلغه؟ أجل الله لا يتقدمه أحد ولا يستأخر عنه . قال تعالى :} وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ{ .

أكتفي بهذا القدر ، وأترككم في حفظ الله، وصلى الله وسلم وبارك وأنعم على نبينا وسيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق